أكثر من محاسبة -أقل من انتقام

Published on 10 June 2025 at 20:39

 تقرير تحليلي

مع انتهاء حكم بشار الأسد، وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، تبدأ سوريا مرحلة جديدة بالغة الحساسية والتعقيد. بعد سنوات من النزاع، والانقسام، والانتهاكات الواسعة، لم يعد يكفي الحديث عن الأمن أو الاستقرار السياسي، فهناك حاجة وطنية ملحّة لعدالة تعالج الجذور العميقة .

العدالة الانتقالية: أكثر من محاسبة، أقل من انتقام

العدالة الانتقالية هي مجموعة من الإجراءات القانونية والمؤسساتية تهدف إلى التعامل مع إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من خلال المحاسبة، وجبر الضرر، وكشف الحقيقة، وإصلاح المؤسسات. وهي ضرورية في سوريا اليوم ليس فقط من أجل الضحايا، بل من أجل بناء دولة قانون لا تُعيد إنتاج العنف والاستبداد.

سوريا التي تتعافى من نزاع دموي لا يمكنها أن تتقدم إلى الأمام دون معالجة ماضيها. آلاف العائلات ما زالت تبحث عن مصير أحبائها، والمجتمع بأسره يحتاج إلى استعادة ثقته في أن حقوقه لن تُنتهك دون حساب.

ما الذي يمكن أن يستفيد منه السوريون من تجربة رواندا؟

تُعتبر رواندا واحدة من أبرز الأمثلة على نجاح العدالة الانتقالية في أعقاب الإبادة الجماعية عام 1994. من خلال مزيج من المحاكم الشعبية، والمسارات القضائية، وبرامج المصالحة، استطاعت رواندا أن:

• تُعيد الاعتبار للضحايا دون أن تُقسم المجتمع أكثر.

• تحقق نوعًا من العدالة دون الاعتماد الكامل على المحاكم الدولية.

• تدمج مفاهيم الاعتراف والمغفرة والمحاسبة في عملية واحدة حافظت على الاستقرار وأرست الثقة.

هذا النموذج يقدّم دروسًا مهمّة لسوريا، خاصة في كيفية الموازنة بين العدالة والاستقرار، وبين الحقوق الفردية والحاجة إلى تماسك اجتماعي جديد.

لماذا يجب على الشارع السوري دعم العدالة الانتقالية؟

رغم أن بعض الأصوات في الشارع قد ترى في هذا المسار أولوية مؤجلة أو مصدرًا لتجدد الانقسام، إلا أن العدالة الانتقالية تمثّل ضمانة أساسية لعدم تكرار ما حدث. من دونها، تبقى أبواب الظلم مفتوحة، والثقة في الدولة هشّة، والبيئة مهيأة لدورات جديدة من العنف.

كما أن العدالة الانتقالية ليست موجهة ضد جهة أو فئة، بل تهدف إلى مساءلة كل من ارتكب انتهاكات خطيرة – بغض النظر عن انتمائه أو موقعه. وهي في جوهرها تُنصف الضحايا، وتمنع التعميم، وتُفرق بين المسؤولية الفردية والانتماء الجماعي.

تحديات التنفيذ

هناك تحديات واضحة: ضعف المؤسسات القضائية، الخلافات السياسية، إرث طويل من الإفلات من العقاب، والضغوط الإقليمية والدولية. لكن تجاوز هذه التحديات يتطلب إرادة وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة وتضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

نحو مستقبل لا يقوم على النسيان

العدالة الانتقالية ليست وصفة جاهزة، بل عملية مستمرة تُصمَّم حسب واقع البلد واحتياجاته. لكنها تبقى في جميع النماذج الناجحة أداة أساسية لترميم المجتمعات المنقسمة، وبناء أنظمة حكم أكثر استقامة ومساءلة.

في سوريا ما بعد الأسد، لا يمكن بناء الاستقرار على النسيان القسري، ولا يمكن للمصالحة أن تقوم على تجاهل الجرائم. العدالة الانتقالية ليست عبئًا على الانتقال السياسي، بل شرط أساسي لنجاحه واستمراره.

Rating: 3.5454545454545 stars
11 votes

Add comment

Comments

There are no comments yet.